معرفة

الجغرافيا والسياسة: كيف تغيرت قواعد اللعبة عبر العصور؟

الجيوبوليتيكا.. كيف لعبت الجغرافيا دوراً كبيراً في تشكيل توجهات ورؤى الدول والإمبراطوريات المختلفة، بل وفي تحديد مصائرها وعلاقاتها الدولية؟

future صورة تعبيرية: التنافس الجيوسياسي العالمي (في فبراير 2020) وكأنه رقعة شطرنج

على مدار العصور التاريخية المختلفة، لعبت الجغرافيا دوراً كبيراً في تشكيل توجهات ورؤى الدول والإمبراطوريات المختلفة، بل وفي تحديد مصائرها وعلاقاتها الدولية، وذلك باعتبارها أحد معطيات السياسة الفاعلة، وهو ما يعرف بـ«الجيوبوليتيكا».

ويذكر جلال خشيب في دراسته «الجيوبوليتيك في القرن الحادي والعشرين: انتصار الجغرافيا وعودة عالم ثيوسيديدس»، أن الجغرافيا أدت منذ القدم دوراً ريادياً في تحديد نمط سلوك الوحدات السياسية وتصورات القادة وعلاقتهم بالمجتمعات السياسية الأخرى، سواء في زمن الحرب أو في أوقات السلام.

الجغرافيا وتشكيل الدول والحضارات قديماً

بحسب خشيب، فلقد لاحظ أرسطو قديماً أهمية الجغرافيا في علاقتها بالسياسة، فدرس البيئة أو المحيط الطبيعي من حيث تأثيره في الطبيعة البشرية والضرورات الاقتصادية والعسكرية للدولة النموذجية، وهو ما فعله هيرودوت أيضاً أكبر مؤرخي اليونان القديمة، إذ أكد أهمية ودور موقع اليونان الجغرافي ذي الإقليم المعتدل في تأهيل الإغريق ليتبوؤوا السيادة العالمية آنذاك على شعوب الشمال البارد والجنوب الحار.

وفسر فريق آخر من اليونان القديمة التغيرات السياسية بين المدن والدول في ضوء أشكال السطح المختلفة، فإقليم أتيكا، الذي برز على سطح السياسة الإغريقية فترة طويلة، كان قد نما سياسياً وازدهر حضارياً نتيجة للظروف الطبيعية التي جعلته آمناً من الغزو، فصار مكاناً يُلتجأ إليه بسبب فقره الطبيعي في موارده المحلية، وعلى النقيض كان إقليم هيلس مسرحاً مستمراً للصراع.

ويذكر محمد رياض، في كتابه «الأصول العامة في الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيكا: مع دراسة تطبيقية على الشرق الأوسط»، أن تحليل العلاقات السياسية الدولية في ضوء الأوضاع الجغرافية هو جوهر علم «الجيوبوليتيكا»، وهو أمر يختلف من فترة لأخرى بحسب تغير الجغرافيا ومدى تطور الإنسان.

ويشرح رياض، أن الأفكار الجيوبوليتيكية القديمة عامة ارتبطت بالظروف الجغرافية المحيطة بشعب أو مملكة أو مفكر، وهذه السياسات القديمة، سواء كانت عشائرية أو على مستوى القبيلة بالنسبة للرعاة وأمثالهم من المتحركين، أو الإمارات أو الدول التي كونت الحضارات العليا القديمة في الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط. هذه السياسيات كانت تقودها وتسيطر عليها فكرة الوحدات الجغرافية المتكاملة، مثل الأودية النهرية كما هو الحال في وادي النيل الأدنى الذي تكونت فيه الدولة المصرية القديمة، وما بين النهرين الذي تكونت فيه دول سومر وأكاد وبابل وآشور.

وفي عهود هذه الدول القديمة ظلت الصحارى والجبال مناطق متميزة بوضوح خارج الدولة أو داخل نفوذها السياسي غير المباشر، وأجبر هذا الأمر تلك الدول على أن تقيم حدوداً ومعسكرات لأجنادها في أقاليم الحركة المستمرة للرعاة لإجبارهم على احترام الدولة أو لإخماد ثوراتهم وحركاتهم الغازية التي قلما تهدأ، ورغم ذلك اجتاح الرعاة بابل وممالك العراق القديم مرات، واجتاحوا مصر في صورة الهكسوس.

وأدت هذه الصراعات إلى تغيرات مستمرة في التركيب السياسي والعسكري لهذه الدول. فعلى سبيل المثال انتهى الصراع بين العراق والفرس بسقوط دولة بابل الثانية وامتداد الإمبراطورية الفارسية على كل أنحاء الشرق الأوسط.

أما الصراع بين مصر والحيثيين فقد ألجأ المصريين إلى اتباع سياسة أساسها فرض الصراع على أرض بعيدة عن مصر، ولهذا احتل المصريون ساحل البحر المتوسط حتى جبال طوروس وأمنوا المنطقة كلها حتى حدود المملكة الحيثية في هامش الهضبة، وبذلك أصبحت جغرافية الفراعنة في الدولة الحديثة تشمل الامتداد إلى الأرضي الخصب على طول ساحل البحر المتوسط، بينما كانت سياساتهم قبل ذلك تجعل لهم حدوداً حتى سيناء فقط.

الجغرافيا والسياسة في العصر الإسلامي

في العصر الإسلامي، اهتم الجغرافيون العرب أساساً بالجغرافيا الوصفية والإقليمية والفلكية ورسم الخرائط، ولكن في إطار الجغرافيا الإقليمية لكل دولة أو إقليم على حدة كانت تبرز المعالجات المختلفة لموضوعات الجغرافيا السياسية، بحسب رياض.

وعلى وجه العموم، قسم الجغرافيون العرب العالم المسكون إلى قسمين رئيسيين، هما أوروبا في الشمال وأفريقيا وآسيا في الجنوب، وهم في الحقيقة لم يميزوا بين أفريقيا وآسيا، بل عدوها كتلة قارية واحدة. ويفصل بين هذين القسمين البحر المتوسط والأسود، ويقتربان في منطقتي جبل طارق وبحر مرمرة، وقد قوى هذا التقسيم انقسامٌ حضاري مماثل، حيث عالم إسلامي عربي الطابع في معظمه يقوم في جنوب وشرق هذا البحر، وعالم مسيحي أوروبي في شمال هذا البحر، والاستثناء الوحيد كان الخلافة الإسلامية في إسبانيا.

وعلى هذا النحو كانت الأفكار «الجيوبوليتيكية» العربية عامة موجهة نحو السيطرة القارية السياسية، والسيطرة التجارية سواء البحرية والبرية إلى المحيط الهندي وشرق آسيا ووسطها، بينما كانت أفريقيا الزنجية على الهوامش، ومن ثم فإن ثم اختلاف بين الإمبراطورية الإسلامية في أوجها والإمبراطورية الرومانية في أوجها، ولكن هذا الاختلاف يرتبط بموقع القلب والتوجيه القاري.

فروما كانت ترتكز على القارة الأوروبية والبحر المتوسط، بينما كانت مدينة بغداد ترتكز على العالم الأفروآسيوي والمحيط الهندي، وبذلك كانت القاعدة الإسلامية كبيرة وامتداداتها الأرضية شاملة لمسطح أرضي وبحري واسع مقارنة بروما.

وفيما عدا هذا الاختلاف، فإن الطرق البرية والبحرية الإسلامية كانت عصب الامتداد الإمبراطوري في كل اتجاه، وكانت الكتلة الأرضية الوسطى هي الحلقة التي تكون الإطار الداخلي للإمبراطورية الإسلامية، وحدود هذه الكتلة كانت جبال طوروس وهضبة أرمينيا وجبال القوقاز وبحر الخزر - قزوين - في الشمال، وساحل البحر المتوسط الشرقي والجنوبي حتى برقة في الجنوب، ثم الإطار الصحراوي الذي يحف ببرقة ومصر، والبحر الأحمر والقرن الأفريقي والبحر العربي حتى بلوخستان في الغرب والجنوب، بينما كانت أطراف السند وخوراسان وما بين النهرين تكون الحدود الشرقية لهذا القلب الداخلي.

وإلى جانب ذلك، كانت هناك حدود أخرى تمثل الحلقة الخارجية للعالم الإسلامي تمتد غرباً إلى إسبانيا وشمال غربي أفريقيا، وجنوباً حتى موريتانيا وسواحل أفريقيا الشرقية، وشرقاً إلى الهند وتركستان حتى حدود الإستبس.

المفاتيح الخمسة للعالم

هناك ملاحظة أخرى تتعلق بأهمية الحدود الجغرافية في صوغ السياسات الخارجية للدول والكيانات السياسية عبر التاريخ، إذ تسهل طوبوغرافية الأرض ووجود الماء وجودة المناخ التفاعلات بين هذه الكيانات أو تعيقها. ومن ثم لم يكن من مصادفات التاريخ أن الإمبراطوريات التاريخية العظمى تشكلت حول طرق المواصلات المائية كأحواض الأنهار القديمة في آسيا والشرق الأوسط والبحر المتوسط حتى الأزمنة الحديثة.

ويدلل خشيب، في دراسته المذكورة آنفاً، على ذلك بالقوة البحرية التي اكتسبتها بريطانيا العظمى بسبب موقعها الجغرافي المتميز، الذي مكنها من بناء أسطول بحري ضخم والسيطرة على البحار وطرق وصول أوروبا القارية إلى العالم الخارجي وحرمان منافسيها من مستعمراتهم في الخارج، منها السيطرة على ما يُسمى «المفاتيح الخمسة التي تقفل العالم»، أي مضيق جبل طارق، وسنغافورة، ودوفر، ورأس الرجاء الصالح والإسكندرية.

والغريب، أن الفكرة نفسها طرحها ابن خلدون من قبل في ما يتعلق بالامتداد العربي عبر قارات العالم القديم. فقد عملت الصحراء بالنسبة إلى العرب قديماً عمل البحار بالنسبة إلى بريطانيا العظمى، فهي خالية من أي حواجز طوبوغرافية معيقة للتقدم، كما وفرت السهول الكبرى في آسيا سهولة في التحرك والتوسع للمغول حتى بلغت الأراضي المسيطر عليها مساحات شاسعة صنعت إمبراطورياتهم الممتدة.

الجغرافيا وسلوك الدول

للجغرافيا أيضاً دور حاسم في تحديد التوجهات الكبرى للسياسات الخارجية للدول عبر التاريخ، فسلوك الدولة سلماً أو حرباً تحدده الجغرافيا أيضاً في كثير من الأحيان، ولعل المثال الأبرز في التاريخ الحديث هو ذلك المتعلق بالتوجه البحري لبريطانيا العظمى والتوجه البري القاري لألمانيا التوسعية منذ الحرب العالمية الأولى.

ويشرح خشيب، أن الجغرافيا أسهمت في صنع التوجه الخارجي لكل من الدولتين، إذ واجهت ألمانيا كلاً من الشرق والغرب في حروب مضنية وفي غياب سلاسل جبلية تحميها، إذ أصابها بالعطب والعجز فعملت مجبرة على التحول من النزعة العسكرية إلى نزعة ناشئة للسلام فقط، وذلك من أجل أن تحمي أمنها وتكيفه مع موقعها الجغرافي الصعب «وسط بحر من الأعداء». أما بريطانيا فقد صنعت جغرافيتها المحاطة بمياه عازلة لها توجهها المحيطي.

الأكثر من ذلك فقد أسهمت بشكلٍ كبير جغرافية البلدين في صنع نظامهما السياسي الداخلي، فالنزعة الديكتاتورية التي تنامت مع هتلر ترجع أساساً إلى «لعنة الجغرافيا» التي جعلت من ألمانيا دولة حبيسة محاطة بالأعداء والمتربصين، مما يجعل صانع القرار هناك مهووساً بالأمن وزيادة التسلح وجمع السلطة بين يديه لضمان وحدة الرأي والأرض. وفي مقابل ذلك تمكنت إنجلترا من تطوير نظام ديمقراطي قبل جيرانها بسبب موقعها المؤمن بمياه عازلة عن الأعداء.

تغير قواعد اللعبة بعد الحرب الباردة

يذكر كاظم هاشم نعمة، في دراسته «المحور الجيوبوليتيكي العربي – الإسلامي وعملية هيكلة النظام الدولي: نحو مقاربة جديدة»، أنه بنهاية الحرب الباردة أعيدت قراءة القواعد الحاكمة للعلاقة بين الجغرافيا وسياسات القوى الرئيسة في النظام العالمي، فقد تغيرت أهمية «المكان» أو «الموقع»، إذ لم يعد بأهمية قصوى في حد ذاته، بل بما فيه من مصادر الموارد الطبيعية والسوق وفرص الاستثمار التي جعات منه ميدان صراع.

وبذلك تغيرت القيمة الجغرافية لمنطقة وسط وجنوب شرقي آسيا، ومن كونها ذات مزايا إيجابية في الصراع على القوة لأغراض الأمن فحسب، لتصبح ساحة تنافس ونزاعات مسلحة من منطلق أهمية الموارد (الطاقة)، ومن ثم بات إقليما الشرق الأوسط ووسط آسيا أهم موقعين في موارد الطاقة، وأصبحا يؤثران في النظام الدولي والسياسة العالمية.

وفي ظل هذه الأوضاع، أفرزت بيئة ما بعد الحرب الباردة هيكلاً لنظام عالمي في توزيع القوة، يختلف عن ذاك الذي ساد في الفترة 1945-1991، فقد برزت أقاليم جغرافية ذات قيمة محورية أصبحت ميادين للتنافس عليها بين القوى الكبرى، وذلك بناء على عدد من المحاور التي تبيانت قوتها من منطقة لأخرى، منها الموقع والموارد والقضايا الفاعلة بها، والمصالح المرتبطة بها.

وبمعنى آخر، كما يذكر نعمة، أصبحت دول المنطقة غير متكافئة في القيمة بالنسبة لهذه المحاور، فقيمة الطاقة لكل من السعودية والعراق وإيران والجزائر أكبر من تركيا وباكستان واليمن، وقيمة مصر واليمن أكبر من الجزائر والعراق من حيث الموقع، إذ تقع مصر على البحر الأبيض المتوسط وتسيطر على قناة السويس وتعد مدخلاً إلى أفريقيا، وتقع اليمن على مضيق باب المندب، ممر الطاقة والتجارة العالمية. والقيمة العسكرية لباكستان وتركيا ومصر والسعودية وإيران أكبر من العراق والجزائر وأفغانستان.

والملاحظ أن بعض الدول تمتعت بأكثر من قيمة، فتركيا محور إقليمي اقتصادي وعسكري، وموقع وأيديولوجيا، ولباكستان أهمية عسكرية وأيديولوجية وليس اقتصادية، ويجتمع في السعودية أهمية موقع واقتصاد وتسلح وأيديولوجيا، أما إيران في قضية انتشار الأسلحة النووية فأشد أهمية في الأخطار من باكستان النووية فعلياً والمتوازنة مع الهند النووية.

وفي ظل هذه المعطيات، برزت قضايا وقوى إقليمية في المنطقة بعد الحرب الباردة أكثر تعقيداً مما ألفته الحرب الباردة. فعلى سبيل المثال، مثلت استعادة إيران عافيتها الاقتصادية إيذاناً بتطوير قدراتها العسكرية وتحدي الوجود الأمريكي في الخليج العربي، وتصدرت الدفاع عن القضية الفلسطينية، ومثلما سعى الشاه للهيمنة على الخليج العربي والنفوذ الإقليمي بدعم من أمريكا، على أساس شرعية تاريخية، فإن إيران ما بعد الخميني سعت للهيمنة لكن من خلال أيديولوجيا إسلامية، تستتر خلفها على نيات توسعية في البحرين، ومجال نفوذ في سوريا ولبنان والعراق واليمن، واتخذت من المذهبية هوية قومية تتحدى بها القومية العربية والقومية التركية أو العثمانية الجديدة.

كما تصاعد دور السعودية في السياسة العربية بعد أفول الناصرية واتفاق كامب ديفيد في عهد السادات، والأزمات الداخلية المصرية في أعقاب الربيع العربي، وأصبحت في مواجهة إيران لأسباب أيديولوجية مذهبية.

كما برزت في المنطقة عداوات إضافية، وقومية ومذهبية، واحتدمت نزاعات حروب باردة وأخرى بالوكالة، ولاذت القوى الإقليمية للاستعانة بالقوى الخارجية، سواء أمريكا أو روسيا أو الصين أو الاتحاد الأوروبي، وهذه القوى ليس بينها تعاون أو تكافؤ في المصالح والأهداف والاستراتيجيات، وفي النهاية يسرت بيئة الحرب الإقليمية والعربية – العربية أسباب تعزيز الهيمنة الأمريكية على المنطقة.

# سياسة # تاريخ وحضارة # الجغرافيا السياسية # الجيوبولوتيك

كيف حفرت طرابلس الليبية اسمها في نشيد «المارينز» الأمريكي؟
السودان وإثيوبيا: حدود لا تعرف الهدوء
ضربات البيجر واللاسلكي: بداية تصعيد أم تهدئة على جبهة لبنان؟

معرفة